كانت كوثر تتجه إلى مكتبة المدرسة كلما فرغت من حصصها أو حتى بين الحصص، لأنها لم تكن تجد ملاذًا من الواقع غير الكتب. كانت تدفن رأسها بين صفحاتها وتنتقل من كتاب إلى آخر كأنها تسافر عبر الزمن. كان هاتفها دائمًا على الوضع الصامت لأنها لا تريد أن يلهيها شيء عن عملها أو عن قراءتها، كما أنها لم تكن تنتظر مكالمة من أحد، فكل من يعرفها يعلم أنها تفضل الرسائل النصية على المكالمات. كانت تتفقد الهاتف من حين إلى آخر لترى إن كانت قد وصلتها رسالة مهمة، وبينما كانت تتفقده هذه المرة كنوع من الاستراحة أثناء القراءة، وجدت رقمًا غريبًا قد بعث لها برسالة تقول: “سلام لمن سلبت روحي ومضت دون عتاب…”. هنا عرفت أن سليم قد وصل إلى رقمها الجديد.
لم تمضِ أيام قليلة على قراءة تلك الرسالة من سليم حتى أصبحت كوثر شاحبة، هزيلة، لا تقرب الأكل إلا نادرًا، وكأن شبحًا يلاحقها. في أحد أيام الثلاثاء التي ترجع فيها باكرًا، وجدت والدتها تصنع المحاجب، وهي أكلة تحبها، لكنها لم تأكل شيئًا يومها. وهنا زاد قلق الأم وقررت أن تبوح لابنتها بقلقها، عسى أن تشاركها الأخيرة سبب تعاستها.
أحضرت الأم حبتي محاجب وقرعت باب الغرفة مرتين. فردت كوثر: “ادخلي يا أمي، أنا أقرأ”. دخلت الأم وحلفت يمينًا أنها لن تغادر الغرفة قبل أن ترى كوثر تأكل، بل عليها أن تكمل الحبّتين. حاولت كوثر أن تأكل القضمة الأولى والثانية، وقبل أن تدخل القضمة الثالثة فمها، انفجرت بالبكاء. هنا قررت الوالدة أن تحتضن ابنتها دون كلام، فقط حضن دافئ يطمئنها. وبعد نحيب طويل، تكلمت كوثر وقالت:
“أنا آسفة يا أمي، لقد أسأت إليك وإلى ذكرى أبي رحمه الله. لقد عرفت شابًا وظننته جادًا، لكنه اتضح أنه متلاعب وكسر قلبي”.
استمرت الدموع بالانهمار على مقلتيها كأنهما سيل لا نهاية له. ابتعدت الأم قليلًا لتوجه الكلام إلى كوثر وهي تنظر في عينيها، لكنها أمسكت بيدها حتى لا يتبدد شعورها بالأمان مع انتهاء الحضن. قالت لها: “لا تبكي يا ابنتي، فقلبي يتمزق لرؤيتك على هذه الحال. أنا أعرف أنك لم تسيئي لذكرى أبيكِ، لكنك وثقتِ بالإنسان الخطأ. ربما الله سبحانه وتعالى حرم هذا النوع من العلاقات لحماية قلوبنا من الانكسار. وضعت القوانين في العلاقات لحفظ الحقوق ولحماية القلوب. البيوت تُؤتى من أبوابها يا بنيتي، وهذا الشاب قرر أن يكلمكِ أولًا. لو جاءني أولًا وعرفنا أصله وفصله، ثم وافقنا عليه، وكانت هناك خطوبة رسمية، لما تحملتِ الألم وحدكِ في حال حدوث شيء ما.”
كانت كوثر تعلم أن ما تقوله الأم هو الصواب، وهذا ما آمنت به طوال شبابها قبل أن تقابل سليم، حيث لم تسمح لأحد بالاقتراب منها قبل الكلام مع والدها خلال حياته. لو تقدم سليم لخطبة كل فتاة تلاعب بمشاعرها وأخذ منها أغلى ما عندها، لما كان بإمكانه خداع أهلها والمجتمع. ضحاياه تُعد بالعشرات، ولو كان كل شيء رسميًا لما استطاع خداع ربع هذا العدد، لأن وجود الأهل والأصحاب في حياة الضحية يحميها من التعرض للتلاعب العاطفي الذي كان سليم يجيده.
أخبرت كوثر والدتها بكل تفاصيل حكايتها مع سليم، من أول يوم دخلت فيه المكتب إلى أن قرر تجنبها وكأنها لم تكن، وحتى آخر رسالة بعثها إليها، والتي قلبت حالها، وأحيت الألم، وفتحت جرحًا كنا نظن أنه قد التأم.
لم تترك الأم يد ابنتها لحظة واحدة حتى انتهت من كلامها، الذي ختمته بسؤال: “هل ينفع الندم يا أمي؟”. هنا تركت الأم يد ابنتها وطلبت منها الاقتراب حتى تسكنها صدرها، وأخذت تمسح بنفس اليد على شعرها الناعم الطويل، ثم قالت:
“الإجابة تختلف من شخص لآخر. الندم الذي يحدث نوعًا من الوعي عند الضحية ويفتح عينيها على ما كانت تجهله ينفع طبعًا. ينفع في تجنب الوقوع في فخاخ مشابهة، ويعلّمنا كيف ننظر للأشياء بمنطقية أكثر وعقلانية. وفي حالتك هذه يا بنيتي، يجب ألا نثق في الكلام المعسول أبدًا، ونجعل الأفعال المعيار الوحيد في الحكم على ما يريده الآخرون منا. إن أراد هذا الرجل الزواج منكِ، كان من الأحرى أن يكلمني أولًا، وبعدها نسأل عنه جيدًا قبل أن أعطيه فرصة التعرف إليكِ. ولو حصل كل هذا، كنا عرفنا ما يعرفه الكل عنه، وكنا جنبنا قلبكِ الصغير كل هذا الألم.”
غادرت الأم غرفة ابنتها ومعها الكثير من وجعها. كانت هذه السيدة الفاضلة تقول كلامًا لا يختلف في عمقه عن كلام طبيب نفسي ملم بالحياة النفسية، إلا أنها لم تدخل الجامعة يومًا، واكتفت بالمستوى الثانوي كحد أقصى من التعليم.
تزوجت والد كوثر وهي في العشرين من عمرها، وأنجبت طفلتها الأولى وأول فرحتها وهي في الثانية والعشرين من عمرها. وبعد سنوات، أنجبت طفليها الآخرين. لم تتذمر يومًا من الحياة البسيطة أو قلة المال. عندما تزوجت، أحضرت الكثير من الحلي الذهبية، وسنة بعد سنة اختفت كلها، لأنها في كل ضائقة مالية واجهها زوجها كانت تلجأ لبيع قطعة لحلها، حتى لم يبقَ غير خاتم زواجها، الذي كان ذا قيمة معنوية كبيرة لديها.
هذه الأم الطيبة استطاعت ببضع كلمات أن تحتوي ابنتها وهي تمر بأصعب أوقاتها. كان لها من الحكمة والإدراك ما يكفي لحل مشاكل كل البنات في حيها. كانت السيدة رقية نعم الزوجة، وعند رحيل زوجها أصبحت نعم الأم لابنيها وابنتها الوحيدة.
يتبع…
Comments